فصل: قال ابن المثنى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من مجازات القرآن في السورة الكريمة:

.قال ابن المثنى:

سورة البلد 9:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كبد} (4) في شدّة قال لبيد:
يا عين هلّا بكيت أربد إذ ** قمنا وقام الخصوم في كبد

[942].
{مالًا لبدا} (6) فعل من التلبّد وهو المال الكثير بعضه على بعض..
{النجدين} (10) الطريقين في ارتفاع، نجد الخير ونجد الشر..
{فَلَا اقْتَحَمَ العقبة} (11) فلم يقتحم العقبة في الدنيا ثم فسّر العقبة فقال: {وَما أَدْراكَ مَا العقبة فَكُّ رقبة أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة} (12- 14) أي مجاعة..
{مِسْكِيناً ذا متربة} (16) قد لزق بالتراب..
{نارٌ مؤصدة} (20) مطبقة، آصدت وأوصدت وهو أطبقت. اهـ.

.قال الشريف الرضي:

ومن السورة التي يذكر فيها البلد:

.[سورة البلد: آية 6]

{يَقول أَهْلَكْتُ مالاً لبدا (6)}.
وقوله سبحانه: {يَقول أَهْلَكْتُ مالًا لبدا} [6] وهذه استعارة. وقد مضى نظير لها. والمراد باللّبد هاهنا المال الكثير الذي قد تراكب بعضه على بعض، كما تلبّدت طرائق الشّعر، وسبائخ القطن.
وقد يجوز أن يكون ذلك مأخوذا من قولهم: رجل لبد. إذا كان لازما لبيته لا يبرحه. وبه سمّى نسر لقمان لبدا، لمماطلته للعمر، وطول بقائه على الدهر. فكأنه قال: أهلكت مالا كان باقيا لى، وثابتا عندى.

.[سورة البلد: الآيات 10- 11]

{وَهَدَيْناهُ النجدين (10) فَلا اقْتَحَمَ العقبة (11)}.
وقوله سبحانه: {وَهَدَيْناهُ النجدين فَلَا اقْتَحَمَ العقبة} [10، 11] وهذه استعارة. والمراد بـ: {النجدين} هاهنا الطريقان المفضيان إلى الخير والشر. والنّجد: المكان العالي، وإنما سمّى تعالى هذين الطريقين بـ: {النجدين}، لأنه بيّنهما للمكلّفين بيانا واضحا ليتّبعوا سبيل الخير، ويجتنبوا سبيل الشر. فكأنه تعالى بفرط البيان لهما قد رفعهما للعيون، ونصبهما للناظرين.
وقوله سبحانه: {فَلَا اقْتَحَمَ العقبة} [11] استعارة أخرى.

.[سورة البلد: الآيات 13- 14]

{فَكُّ رقبة (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة (14)}.
وفسّر تعالى المراد بـ: {العقبة} فقال: {فكّ رقبة أو أطعم في يوم ذى مسغبة} [13، 14] الآية.
وقرئ {فَكُّ رقبة أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة} فشبه سبحانه هذا الفعل- لو فعله الإنسان- باقتحام العقبة، أي صعودها أو قطعها. لأن الإنسان ينجو بذلك كالناجى من الطريق الشاق، إذا اقتحم عقبته، وتجاوز مخافته. وحسن تمثيل هذا الفعل هاهنا بالعقبة لما شبّه سبحانه سبيلى الخير والشر بالنجدين اللذين هما الطريقان الواضحان والعقاب إنما تكون في طريق السالكين، وسبيل المسافرين. وعليها يكون بهر الأنفاس، وشدة الضغاط والمراس. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة البلد:
{لا أقسم بهذا البلد} يعنى أقسم بمكة {وأنت حل بهذا البلد} ثاوٍ به تدعو إلى الله على بصيرة. ومع أن البلد حرم يصان فيه الحيوان والنبات، فإن محمدا استبيح واستمرئ العدوان عليه. ولم إذا القسم ببلد يقع فيه هذا التناقض؟ لأن الدعوة إلى التوحيد هنا وبناء جيل جديد يرتبط بالله إجابة لدعاء وقع من وراء القرون، يقول فيه إبراهيم وإسماعيل {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} ولذلك نحن نفسر {ووالد وما ولد} بأن الوالد هو إبراهيم وأن محمدا من ذرية إسماعيل هو ولده الذي يختم الرسالات ويقيم دولة التوحيد في الأرض. {لقد خلقنا الإنسان في كبد} إن الجنس الإنسانى يحمل أثقال التكاليف، ولجام الشريعة يحجزه عن تحقيق شهواته. وقد يكفر الإنسان وينكر أنه سيحيا مرة أخرى. لم إذا؟ أيعجز الله عن إعادته بعد إماتته؟ {أيحسب أن لن يقدر عليه أحد}؟ وذلك كقوله في سورة أخرى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه}؟! ويغتر الإنسان بما أسدى وأنفق من ثروته {يقول أهلكت مالا لبدا}، كثيرا وتلك طبيعة العرب في الافتخار بالجاه والثراء والعطاء. يقول عنترة: وإذا سكرت فإننى مستهلك مالى وعرضى وافر لم يكلم..! وإذا صحوت فما أقصر عن ندى وكما علمت شمائلى وتكرمى..! وما قيمة هذا كله إذا لقى المرء ربه عريان لا يكسوه إيمان ولا صلاح؟! {أيحسب أن لم يره أحد}؟ إن الله سائل كل امرئ عن ماله «من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه»؟
ثم يذكر المولى عبده بما أوح عنده من نعم تستدعى الشكر {ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين}. فهلا كسر قيود الكفر والتقليد الأعمى واقتحم طريقه إلى الله مؤمنا به مطيعا لأمره! وم إذا يصنع ليحقق ذلك؟ {وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة}. والسورة هنا ذكرت الإيمان بآثاره الجليلة، فليس الإيمان زعما مجردا إنما هو عطاء وفداء وذكاء وسناء. والمؤمنون نماذج الإنسانية الكاملة والشرف الرفيع {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة}. أي جمهور أهل الجنة. والتواصى بالصبر والمرحمة شارة أهل الكمال والاجتهاد. والمؤمنون ليسوا كسالى ولا خزايا، إنهم ناشطون في طريق الخير، حتى يدركهم الموت فينقلهم إلى منازلهم من جنة الرضوان، كل على قدر نشاطه وسبقه وتوفيق الله له. أما مدمنو الآثام وعشاق الظلام، فلهم عاقبة أخرى {والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة}. سورة البلد هذه بينت أن الأنبياء العرب لم ينجحوا في هداية أطراف الجزيرة شمالا وجنوبا. حتى جاء النبي الخاتم فكون من وسط الجزيرة من حملوا المشاعل إلى العالم أجمع. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة البلد:
أقول: وجه اتصالها بما قبلها أنه لما ذم فيها من أحب المال، وأكثر التراث، ولم يحض على طعام المسكين، ذكر في هذه السورة الخصال التي تطلب من صاحب المال، من فك الرقبة، والإطعام في يوم ذي مسغبة. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 7):

قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا البلد (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البلد (2) وَوَالِدٍ وَمَا ولد (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كبد (4) أيحسب أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحد (5) يَقول أَهْلَكْتُ مَالًا لبدا (6) أيحسب أَنْ لَمْ يَرَهُ أحد (7)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
(بسم الله) الملك الواحد القهار (الرحمن) الذي أسبغ نعمته على سائر بريته، وفاوت بينهم في عطيته، فكان كل ساخطا لحالته في كبد ما يهمه في خاصته وعامته لحكم تعجز الأفكار (الرحيم) الذي خص أهل ولايته بما يرضيه عنهم من أقضيته فيوصلهم إلى جنته وينجيهم.
لما ختم كلمات الفجر بالجنة التي هي أفضل الأماكن التي يسكنها الخلق، لاسيما المضافة إلى اسمه الأخص المؤذن بأنها أفضل الجنان، بعد ما ختم آياتها بالنفس المطمئنة بعد ذكر الأمارة التي وقعت في كبد الندم الذي يتمنى لأجله العدم، بعد ما تقدم من أنها لا تزال في كبد ابتلاء المعيشة في السراء والضراء، افتتح هذه بالأمارة مقسماً في أمرها بأعظم البلاد وأشرف أولي الانفس المطمئنة، فقال مؤكداً بالنافي من حيث إنه ينفي ضد ما ثبت من مضمون الكلام مع القطع بأنه لم يقصد به غير ذلك: {لا أقسم} أي أقسم قسماً أثبت مضمونه وأنفي ضده، ويمكن أن يكون النفي على ظاهره، والمعنى أن الأمر في الظهور غني عن الإقسام حتى بهذا القسم الذي أنتم عارفون بأنه في غاية العظمة، فيكون كقوله: {فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} [الواقعة: 86] {بهذا البلد} أي الحرام وهو مكة التي لا يصل إليها قاصدوها إلا بشق الأنفس، ولا يزدادون لها مع ذلك إلا حباً، الدال على أن الله تعالى جعلها خير البلاد، وقذف حبها في قلوب من اختارهم من كل حاضر وباد، لأنها تشرفت في أولها وآخرها وأثنائها بخير العباد، ولم يصفه بالأمن لأنه لا يناسب سياق المشقة بخلاف ما في التين، فإن المراد هناك الكمالات.
ولما عظم البلد بالإقسام به، زاده عظماً بالحال به إشعاراً بأن شرف المكان بشرف السكان، وذلك في جملة حالية فقال: {وأنت} يعني وأنت خير كل حاضر وباد {حال} أي مقيم أو حلال لك ما لم يحل لغيرك من قتل من تريد ممن يدعي أنه لا قدرة لأحد عليه {بهذا البلد} فتحل قتل ابن خطل وغيره وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة، وتحرم قتل من دخل دار أبي سفيان وغير ذلك مما فعله الله لك بعد الهجرة بعد نزول هذه السورة المكية بمدة طويله علماً من أعلام النبوة، أو معنى: يستحل أهله منك وأنت أشرف الخلق ما لا يستحلونه من صيد ولا شجر، وكرر إظهاره ولم يضمره زيادة في تعظيمه تقبيحاً لما يستحلونه من أذى المؤمنين فيه، وإشارة إلى أنه يتلذذ بذكره، فقد وقع القسم بسيد البلاد وسيد العباد، ولكل جنس سيد، وهو انتهاؤه في الشرف، فأشرف الجماد الياقوت وهو سيده، ولو ارتفع عن هذا الشرف لصار نباتاً ينمو كما في الجنة، وأشرف جنس النبات النخل ولو ارتفع صار حيواناً يتحرك بالإرادة، فالحيوان سيد الأكوان، وسيده الإنسان، لما له من النطق والبيان، وسيد الإنسان الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام، لما لهم من عظيم الوصلة بالملك الديان، وسيدهم أشرف الخلق- صلى الله عليه وسلم الذي ختموا به لما فاق به من الفضائل التي أعلاها هذا القرآن، فسيد الخلق محمد بن عبد الله رسول الله أشرف الممكنات وسيدها لأنه وصل إلى أعلى مقام يمكن أن يكون لها، ولو بقي فوق ذلك مقام يمكن للممكن لنقل إليه، ولكونه أشرف كانت مكابدته أعلى المكابدات، يصبر على أذى قومه بالكلام الذي هو أنفذ من السهام، ووضع السلاء من الجزور على ظهره الشريف- نفديه بحر وجوهنا ومصون جباهنا وخدودنا- وهو ساجد، ووضع الشوك في طريقه، والإجماع على قصده بجميع أنواع الأذى من الحبس والنفي والقتل بحيث قال صلى الله عليه وسلم: «ما أوذي أحد في الله ما أوذيت».
ولما أفهمت هذه الحال أن القسم إنما هو في الحقيقة به صلى الله عليه وسلم، كرر الإقسام به على وجه يشمل غيره فقال: {ووالد} ولما كان المراد التعجيب من ابتداء الخلق بالتوليد من كل حيوان في جميع أمر التوليد ومما عليه الإنسان من النطق والبيان وغريب الفهم وكان السياق لذم أولي الأنفس الأمارة، وكانوا هم أكثر الناس، حسن التعبير بأداة ما لا يعقل لأنها من أدوات التعجيب فقال: {وما ولد} أي من ذكر أو أنثى كائناً من كان، فدخل كما مضى النبي صلى الله عليه وسلم فصار مقسماً به مراراً، وكذا دخل أبواه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام وما صنعا وما صنع الله لهما بذلك البلد، ومعلوم أن ذكر الصنعة تنبيه على صانعها، فالمقصود القسم بمن جعل البلد على ما هو عليه من الجلال، وخص النبي صلى الله عليه وسلم بما خصه به من الإرسال، وفاوت بين المتوالدين في الخصال، من النقص والكمال وسائر الأحوال، تنبيهاً على ما له من الكمال بالجلال والجمال، ولعله خص هذه الأشياء بالإقسام تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيتاً له على احتمال الأذى، إشارة إلى أن من كان قد حكم عليه بأنه لا يزال في نكد، كان الذي ينبغي له أن يختار أن يكون ذلك النكد فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة المشرفة في أعظم شدة مما يعانيه من أذى الكفار في نفسه وأصحابه رضى الله عنه م لعلو مقامه، فإن شدة البلاء للأمثل فالأمثل كما مضى مع أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر والصفح، وكل والد ومولود في شدة بالوالدية والمولودية، وغير ذلك مما لا يحصى من الأنكاد البشرية، من حين هو نطفة في ظلمات ثلاث في ضيق ممر ومقر ثم ولادة وربط في تابوت وفطام عن الإلف والأهل؟ من المؤدب والمعلم وتوبيخ من المشايخ ومعاندة من الأقرأن، ومن يتسلط عليه من النسوان، مع أنه عرضة للأمراض، وسائر ما يكره من الأعراض والأغراض، والفاقات والنوائب والآفات، والمطالب والحاجات، لا يحظى بهواه، ولا يبلغ مناه، ولا يدرك ما اجتباه، ولا ينجو غالباً مما يخشاه، وتفاصيل هذا الإجمال لا تحصى، ولا حد لها فتستقصى، إلى الموت وما بعده، فلذلك كان المقسم عليه قوله: {لقد خلقنا} أي بما لنا من القدرة التامة والعظمة التي لا تضاهى {الإنسان} أي هذا النوع {في كبد} أي شدة شديدة ومشقة عظيمة محيطة به إحاطة الظرف بالمظروف، لو وكله سبحانه وتعالى في شيء منها إلى نفسه هلك، ولولا هذه البلايا لادعى ما لا يليق به من عظيم المزايا، وقد ادعى بعضهم مع ذلك الإلهية وبعضهم الاتحاد برب العباد- تعالى الله عن قولهم الواضح الفساد، بما قرنه به سبحانه وتعالى من الموت والمرض وسائر الأنكاد، فعل سبحانه ذلك ليظهر بما للعبد من الضعف والعجز- مع ما منحه به من القوى الظاهرة والباطنة في القول والفعل والبطش والعقل- ما له سبحانه من تمام العلم وشمول القدرة، وليظهر من خلقه له على هذه الصفة، علم جميع ما في السورة، فعلم قطعاً إنكار ظنه لتناهي قدرته وتعالى عظمته، وفساد هذا الظن بشاهد العقل من حيث كونه مصنوعاً، وبشاهد الوجود من أجل أنه يسلك طريق الشر ولا يقدر على طريق الخير إلا بالتوفيق، فعلم قطعاً إعجاز السورة لأنه لا قدرة لمخلوق على أن يأتي بجملة واحدة تجمع جميع ما وراءها من الجمل- هذا إلى ما لها من فنون الإيجاز التي وصلت إلى حد الإعجاز، هذا إلى ما لبقية الجمل من الإعجاز في حسن الرصف وإحكام التركيب والربط والمراعاة بالألفاظ للمعاني إلى غير ذلك مما لا يبلغ كنهه إلى منزله سبحانه وعز شأنه، وعلم أن الإكرام والإهانة ليستا دائرتين على التنعيم في الدنيا والتضييق كما تقدم شرحه في سورة الفجر، ولأجل ما علم من كون الإنسان لا يزال في نكد وشدة ونصب من حث احتياجه أولاً إلى مطلق الحركة والسكون، وثانياً إلى المأكل والمشرب، وثالثاً إلى ما يترتب عليهما إلى غير ذلك مما يعيي عده ويجهل حده، توجه الإنكار في قوله تعالى بياناً للأسباب الموقعة له في النكد، وهي شهوتان: نفسية وحسية، والنفسية منحصرة في أربع: الأولى أنه يشتهي أن يكون كل من في الوجود في قبضته فأشار إليها {أيحسب} أي هذا الإنسان لضعف عقله مع ما هو فيه من أنواع الشدائد {أن لن يقدر} ولما أكد بالفعلية وخصوص هذا النافي قدم الجار تأكيداً بما يفيد من الاهتمام بالإنسان فقال: {عليه} أي خاصة {أحد} أي من أهل الأرض أو السماء فيغلبه حتى أنه يعاند خالقه مع ما ينظر من اقتداره على أمثاله بنفسه وبمن شاء من جنوده فيعادي رسله عليهم الصلاة والسلام ويجحد آياته.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أوضح سبحانه وتعالى حال من تقدم ذكره في السورتين في عظيم حيرتهم وسوء غفلتهم وما أعقبهم ذلك من التذكر تحسراً حين لا ينفع التندم، ولات حين مطمع، أتبع ذلك بتعريف نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام بأن وقوع ذلك منهم إنما جرى على حكم السابقة التي شاءها والحكمة التي قدرها كما جاء في الموضع الآخر {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} [السجدة: 13] فأشار تعالى إلى هذا بقوله: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} أي أنا خلقناه لذلك ابتلاء ليكون ذلك قاطعاً لمن سبق له الشقاء عن التفكر والاعتبار {وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً} [الكهف: 57] فأعماهم بما خلقهم فيه من الكبد وأغفل قلوبهم فحسبوا أنهم لا يقدر عليهم أحد، وقد بين سبحانه وتعالى فعله هذا بهم في قوله لنبيه- صلى الله عليه وسلم {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} [الكهف: 28] {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً} [يونس: 99] فأنت تشاهدهم يا محمد ذوي أبصار وآلات يعتبر بها النظار {ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين} فهلا أخذ في خلاص نفسه، واعتبر بحاله وأمسه، {فلا اقتحم العقبة} ولكن إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له- انتهى.
ولما كان الإنسان لا يفتخر بالإنفاق إلا إذا أفضى إلى الإملاق، فعلم أن مراد الإشارة إلى أن معه أضعاف ما أنفق من حيث إنه حقره بلفظ الإهلاك، إشارة إلى الثانية والثالثة من شهواته النفسية وهما إرادته أن يكون له الفخار والامتنان على جميع الموجودات، وإرادته أن يكون عنده من الأموال ما لا تحيط به الأفكار ولا تحويه الأقطار- كما يشير إليه حديث «لو أن لابن آدم واد من ذهب» و«لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» علل سبحانه وتعالى جهله في حسابه ذلك وما تبعه بقوله: {يقول} أي مفتخراً بقدرته وشدته: {أهلكت مالاً لبدا} ولقصد المبالغة في كثرته جاءت قراءة أبي جعفر بالتشديد على أنه جمع لابد كركع وراكع فأفهمت أنه بحيث لا يحصى، بل لو جمع لم تسعه الأرض إلا بأن يكون بعضه على بعض فلا يعد ولا يحد، أي وذلك قليل من الكثير الذي معي، قلدت به أعناق الرجال المنن، واستعبدت به الأحرار في كل زمن، فصرت بحيث إذا دعوت كثر الملبي، وإذا ناديت كثر المجيب، وإذا أمرت عظم الممتثل، وفاء لصنائعي الماضية ورغبة في نعمي الباقية، فمن يستعصي على ومن يخالف أمري، فضلاً عن أن يريد إخمال ذكري أو نقص قدري.
ولما كان الشيء لا يعني إلا إذا كان مجهولاً ولو من بعض الجهات، أنكر عليه هذا الظن على تقدير وقوعه فإنه لا يوصل إلى ما ظنه إلا به، بقوله مشيراً إلى شهوته النفسية الرابعة، وهي أن تكون أموره مستورة فلا يظهر على غيه أحد أصلاً: {أيحسب} أي هذا الإنسان العنيد بقلة عقله {أن لم يره} أي بالبصر ولا بالبصيرة في الزمن الماضي {أحد} أي في عمله هذا سره وجهره وجميع أمره، فينقص جميع ما عمل إذا أراد، وكل ما فاته من آثار هذه الشهوات الأربع، وهو لا يزال فائتاً له، كان من إرادة تحصيله في نكد ومعاناة وكبد بحيث يرمي نفسه لتحصيله في المهالك، ولا يحصل منه على ما يرضيه أبداً، وهذا كناية عن أنه يعمل من المساوي أعمال من يظن أنه لا يطلع عليه، فلذلك نبهه الله تعالى بأنواع التنبيه ليأخذ حذره ويحرز عمره. اهـ.